کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
و تبيينا و يكون الملكان المذكوران اللذان نفى تعالى عنهما السحر جبرئيل و ميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبرئيل و ميكائيل إلى سليمان فأكذبهما الله تعالى بذلك و يجوز أن يكون هاروت و ماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه تعالى قال و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا و يسوغ ذلك كما ساغ في قوله وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ يعني تعالى حكم داود و سليمان و يكون قوله تعالى على هذا التأويل وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ راجعا إلى هاروت و ماروت اللذين هما من الشياطين أو من الإنس المتعلمين للسحر من الشياطين و العاملين به و معنى قولهما إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ يكون على طريق الاستهزاء أو التماجن و التخالع كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا هذا فعل من لا يفلح و قول من لا ينجو و الله لا حصلت إلا على الخسران و ليس ذلك منه على سبيل النصيحة للناس و تحذيرهم من مثل فعل فعله بل على جهة المجون و التهالك و يجوز أيضا على هذا التأويل الذي تضمن الجحد و النفي أن يكون هاروت و ماروت اسمين للملكين و نفى عنهما إنزال السحر بقوله تعالى وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ و يكون قوله تعالى وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ يرجع إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن و الإنس فتحسن التثنية لهذا و قد روي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عباس و غيره من المفسرين و حكي عنه أيضا أنه كان يقرأ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بكسر اللام و يقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين و على هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله تعالى وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ إليهما و يمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر و هو أن لا يحمل قوله تعالى وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ على الجحد و النفي و هو أن لا يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين و تدعيه على ملك سليمان و اتبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر و لا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى و إن أطلق لأنه عز و جل لا ينزل السحر بل يكون منزله إليهما بعض الضلال و العصاة و أن يكون معنى أنزل و إن كان من الأرض حمل إليهما لا من
السماء أنه أتى به عن نجود الأرض و البلاد و أعاليهما فإن من هبط من نجد من البلاد إلى غورها يقال نزل و هبط و ما جرى هذا المجرى.
فأما قوله تعالى وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيحتمل وجوها منها أن يريد تعالى بالإذن العلم من قولهم أذنت فلانا بكذا و كذا إذا أعلمته و أذنت بكذا و كذا إذا أسمعته و علمته و قال الشاعر.
في سماع يأذن الشيخ له
و حديث مثل ماذي مشار .
و منها أن يكون إلا زائدة و يكون المعنى و ما هم بضارين به من أحد إلا بأن يخلي الله تعالى بينهم و بينه و لو شاء لمنعهم بالقهر و القسر زائدا على منعهم بالنهي و الزجر.
و منها أن يكون الضرر الذي عنى به أنه لا يكون إلا بإذنه و أضافه إليه ما هو يلحق المسحور عن الأدوية و الأغذية التي أطعمه إياه السحرة و يدعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور و معلوم أن الضرر الحاصل عن ذلك من فعل الله تعالى بالعادة لأن الأغذية لا توجب ضررا و لا نفعا و إن كان المعرض للضرر من حيث كان كالفاعل له هو المستحق للذم و عليه يجب العوض.
و منها أن يكون الضرر المذكور إنما هو ما يحصل من التفريق بين الأزواج لأنه أقرب إليه في ترتيب الكلام و المعنى أنهم إذا أغروا أحد الزوجين فكفر فبانت منه زوجته فاستضر بذلك كانوا ضارين له بما حسنوا له من الكفر إلا أن الفرقة لم تكن إلا بإذن الله و حكمه لأنه تعالى هو الذي حكم و أمر بالتفريق بين المختلفتين الأديان فلهذا قوله تعالى وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و المعنى أنه لو لا حكم الله تعالى و إذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملة لم يكونوا بضارين له هذا الضرر من الضرر الحاصل عند الفرقة و يقوى هذا الوجه ما روي أنه كان من دين سليمان أنه من سحر بانت منه امرأته.
و أما قوله تعالى وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ثم قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ففيه وجوه أولها أن يكون الذين علموا غير الذين
لم يعلموا و يكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبر عنهم بأنهم نبذوا كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ و الذين لم يعلموا هم الذين عملوا السحر و شروا به أنفسهم. و ثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا لأنهم علموا شيئا و لم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك و رضيه لنفسه على الجملة و لم يعلموا كنه ما يصير إليه من العقاب الذي لا نفاد له و لا انقطاع. و ثالثها أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموه فكأنهم لم يعلموا و هذا كما يقول أحدنا لغيره ما أدعوك إليه خير لك و أعود عليك لو كنت تعقل و تنظر في العواقب و هو يعقل و ينظر إلا أنه لم يعمل بموجب علمه فحسن أن يقال له مثل هذا القول و قال كعب بن زهير يصف ذئبا و غراباه تبعاه ليصيبا من زاده
إذا حضراني قلت لو يعلمانه
أ لم تعلما أني من الزاد مرمل .
فنفى عنهما العلم ثم أثبته بقوله أ لم تعلما أني من الزاد مرمل و إنما المعنى في نفيه العلم عنهما أنهما لم يعملا بما علما فكأنهما لم يعلما و رابعها أن يكون المعنى أن هؤلاء القوم الذين قد علموا أن الآخرة لا حظ لهم فيها مع عملهم القبيح إلا أنهم ارتكبوه طمعا في طعام الدنيا و زخرفها فقال تعالى وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي الذي آثروه و جعلوه عوضا عن الآخرة لا يتم لهم و لا يبقى عليهم و إنه منقطع زائل و مضمحل باطل و أن المآل إلى المستحق في الآخرة و كل ذلك واضح بحمد الله انتهى.
و أقول قال في الصحاح و الغمرة الشدة و الجمع غمر قال القطامي يصف سفينة نوح و حان لتالك الغمر انحسار و قال الانحسار الانكشاف و قال قشعت الريح السحاب أي كشفته فانقشع و تقشع و قال الوطب سقاء اللبن خاصة و قال العلبة محلب من جلد و قال صررت الناقة شددت عليها الصرار و هو خيط يشد فوق الخلف و التودية لئلا يرضعها ولدها و قال الخلف بالكسر حلمة ضرع الناقة و المزممة من الزمام و البزل جمع البازل و هو جمل أو ناقة كمل
لها تسع سنين و الماذي العسل الأبيض و يقال شرت العسل أي اجتنيتها و أشرت لغة ذكره الجوهري و استشهد بالبيت.
و قال الرازي في تفسير هذه الآية
أما قوله وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ففيه مسائل
المسألة الأولى
قوله وَ اتَّبَعُوا حكاية عما تقدم ذكره و هم اليهود ثم فيه أقوال أحدها أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد ص و ثانيها أنهم الذين تقدموا من اليهود و ثالثها أنهم الذين كانوا في زمن سليمان من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان و يعدونه من جملة الملوك في الدنيا فالذين منهم كانوا في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر و رابعها أنه يتناول الكل و هذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره إذ لا دليل على التخصيص و خامسها أنه عائد إلى من تقدم ذكره في قوله نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال السدي لما جاءهم محمد ص عارضوا بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة و القرآن فنبذوا التوراة و أخذوا بكتاب آصف و سحر هاروت و ماروت فلم يوافق القرآن فهذا هو قوله وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحرة.
المسألة الثانية
ذكروا في تفسير تَتْلُوا وجهين أحدهما أن المراد منه التلاوة و الإخبار و ثانيهما قال أبو مسلم تَتْلُوا أي تكذب على ملك سليمان يقال تلا عليه إذا كذب و تلا عنه إذا صدق و إذا أبهم جاز الأمران و الأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر إلا أن المخبر لا يقال في خبره إذا كان كذبا أنه يقول 8944 على فلان و إنه قد تلا على فلان ليميز بينه و بين الصدق الذي لا يقال 8945 على فلان بل يقال روي عن فلان و أخبر عن فلان و تلا عن
فلان و ذلك لا يليق إلا بالإخبار و التلاوة و لا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان ما يتلى و يقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف.
المسألة الثالثة
اختلفوا في الشياطين فقيل المراد شياطين الجن و هو قول الأكثرين و قيل شياطين الإنس و هو قول المتكلمين من المعتزلة و قيل شياطين الإنس و الجن معا أما الذين حملوه على شياطين الجن فقالوا إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها و يلقونها إلى الكهنة و قد دونوها في كتب يقرءونها و يعلمونها الناس و فشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب فكانوا يقولون هذا علم سليمان و ما تم له ملكه إلا بهذا العلم و به سخر الجن و الإنس و الريح التي تجري بأمره و أما الذين حملوه على شياطين الإنس فقالوا روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه إن هلك الظاهر منها بقي ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته و اطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان و أنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ و احتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء و شرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخفيا 8946 فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع و ذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان فإن قيل إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله من شياطين الجن قلنا الفرق أن الذي يفتعله الإنسان لا بد و أن يظهر من بعض الوجوه أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن و هو أن يزيد في كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك و يبقى مخفيا فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان.
المسألة الرابعة
أما قوله عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فقيل في ملك سليمان عن
ابن جريح و قيل على عهد ملك سليمان و الأقرب أن يكون المراد و اتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر فيقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان و الله أعلم.
المسألة الخامسة
اختلفوا في المراد بملك سليمان فقال القاضي إن ملك سليمان هو النبوة أو يدخل فيها النبوة و تحت النبوة الكتاب المنزل عليه و الشريعة فإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر و قد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته و أوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولا على ملكه في الحقيقة و الأصح عندي أن يقال القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان و الله أعلم.
المسألة السادسة
السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان وجوه أحدها أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره و ترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم. و ثانيها أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر. و ثالثها أن الله تعالى لما سخر الجن ل سليمان فكان يخالطهم و يستفيد منهم أسرارا عجيبة. فغلب على الظنون أنه عليه السلام استفاد السحر منهم. أما قوله تعالى وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر و ذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر و السحر و قيل فيه أشياء أحدها ما روي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا أ لا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا و ما كان إلا ساحرا فأنزل الله هذه الآية. و ثانيها أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله منه. و ثالثها أن قوما زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاحق بغيره فقال وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه و ينسبه إلى
سليمان ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال تعالى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
و اعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه الأول في البحث عنه بحسب اللغة فنقول ذكر أهل اللغة إنه في الأصل عبارة عما لطف و خفي سببه و السحر بالفتح هو الغذاء لخفائه و لطف مجاريه قال لبيد و نسحر بالطعام و بالشراب.
قيل فيه وجهان أحدهما أنا نعلل و نخدع كالمسحور و المخدوع و الآخر نغذي و أي الوجهين كان فمعناه الخفاء و قال.
فإن تسألينا مم 8947 نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر .
و هذا الوجه يحتمل من المعنى ما احتمله الأول و يحتمل أيضا أن يريد بالمسحر أنه ذو السحر و السحر هو الرئة و ما تعلق بالحلقوم و هذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء و منه قول عائشة توفي رسول الله بين سحري و نحري و قوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ 8948 يعني من المجوف الذي يطعم و يشرب يدل عليه قولهم ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا 8949 و قال تعالى حكاية عن موسى ع أنه قال للسحرة ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ 8950 و قال فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ 8951 فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة.