کتابخانه روایات شیعه
الإستبصار فيما اختلف من الأخبار
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه و سلام على عباده الذين اصطفى محمّد و آله الأئمة الامناء و اللعنة الدائمة على أعدائهم الألدّاء
ألف شيخ الطائفة الدهر كله كتابا واحدا في الثناء عليه، فسرى ذكره مع مهبّ الريح يطوي المفاوز و الحزوم، فلا تجد صقعا إلّا و فيه عبقة من فضله و ألق من نبله، و لا تمّر آونة من الزمن إلّا أوقفتك على مواطن عبقريته و نبوغه، و دون ما هو فيه كلما في المعاجم و التراجم من جمل الإكبار و التبجيل، غير أنّه لا منتدح لنا من إيقافك على يسير ممّا هتف به العلماء من ألفاظ المدح و الإطراء:
قال شيخنا أبو العباس النجاشيّ في رجاله، و هو أقدم من ترجم له، لانه معاصره:- «جليل من أصحابنا، ثقة، عين، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه».
و ليس هذا كل حقيقة الشيخ عنده، و إنّما ذكر ما هو موضوع كتابه المقصور على ذكر حقائق الرجال من ناحية الرواية فحسب، و إلّا فهو كما في الوجيزة للعلامة المجلسي:- فضله و جلالته أشهر من أن يحتاج الى البيان.
و قد أوعز إلى الحقيقة الراهنة آية اللّه العلامة الحلّي في الخلاصة فقال:- شيخ الإماميّة و وجههم، و رئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق عارف بالأخبار و الرجال و الفقه و الأصول و الكلام و الأدب، و جميع الفضائل تنسب إليه، صنّف في كل فنون الإسلام، و هو المهذب للعقائد في الأصول و الفروع، الجامع لكمالات النفس في العلم و العمل، و كان تلميذ الشيخ المفيد محمّد بن محمّد ابن النعمان.
و لقد أعطى النصفة حقها سيدنا آية اللّه بحر العلوم الطباطبائي، و من نصّ قوله في فوائده الرجالية:- شيخ الطائفة المحقّة و رافع أعلام الشريعة الحقّة، إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين عليهم السلام، و عماد الشيعة الإماميّة في كل ما يتعلق بالمذهب و الدين، محقق الأصول و الفروع، و مهذّب فنون المعقول و المسموع، شيخ الطائفة على الإطلاق، و رئيسها الذي تلوى إليه الأعناق، صنّف في جميع علوم الإسلام، و كان القدوة في كل ذلك و الإمام.
و هذا القول البليغ بما أنّه من عظيم من عظماء الشيعة، في كبير من كبرائهم، و كانت الحنكة و الجدارة قد أهلّتاه لكل ما يلفظ به من كلمة تامّة، وقعت عليه خيرة غير واحد من العلماء المترجمين، فاكتفوا به في سرد فضائل الشيخ، و لم ينبسوا فيه ببنت شفة. راجع خاتمة مستدرك الوسائل للعلامة النوريّ (ج 3 ص 505) و كتاب روضات الجنّات (ص 581)
و يظهر لمن سبر كتاب الكنى و الألقاب لشيخنا القمّيّ، أنه لا يفرغ في ترجمة شيخ الطائفة إلّا عن لسانه، و لم يستفد إلّا بفضل بيانه.
و إنّ من أجلى الحقائق الناصعة أنّ مكانة الشيخ المعظم و ثروته العلمية في غنى عن أيّ تشدّق في البيان، أو نقل لكلمات المترجمين فيه، و إنّ المستشفّ لتاريخ الإماميّة جدّ عليم بأنّه أكبر رجل في علوم الدين، و المؤسس الأوحد لطريقة الاجتهاد المطلق في الفقه و أصوله، و الفنيّ المقدّم في الكلام و الخلاف و النقد، و إنّ السابر لأغوار كتبه العلمية المطبوعة منها و المخطوطة المشتملة على فتاواه الفقهيّة و نظرياته الفنّية كالواقف على معاجم الإماميّة، لا يجد شيخنا المترجم له إلّا في الطليعة من فقهاء الشيعة الاثنى عشرية، و من المستنبطين على طريقتهم المثلى من الاعتماد على الكتاب و السنّة، الشاملة للنبويات المعتبرة و أحاديث أئمة الهدى عليهم السلام
و الأصول المستنبطة من أقوالهم و إجماع علمائنا على النحو المقرّر في كتب أصول الفقه، فما عزاه إليه السبكي في طبقات الشافعية (ج 3 ص 51) و تبعه في كشف الظنون «ج 1 ص 311» من انتمائه إلى مذهب الشافعي، و تفقهه عليه ممّا لا مقيل له في ظل الحقيقة، و لم يك شيخ الطائفة مقلدا لأي أحد بل مجتهد مطلق لا يأبه إلا بما قاده إليه الدليل، و اقتضته البرهنة الصادقة، و لقد حاز الثقة الكبرى من طبقات الشيعة جمعاء في رواية الحديث و تحليله و تعليله في المؤتلف منه و المختلف.
و تجد ذكر شيخ الطائفة الجميل في معاجم التراجم لرجالات المذاهب كالكامل لابن الأثير ج 10 ص 22، و طبقات الشافعية للسبكي ج 3 ص 51، و لسان الميزان لابن حجر ج 5 ص 135، و تاريخ البداية و النهاية لابن كثير ج 12 ص 97، و الاعلام للزركلي ص 885 و غيرها.
مولده و نشأته
في الخلاصة لأبي منصور جمال الدين آية اللّه العلامة:- ولد في شهر رمضان سنة 385 و يؤثر عين هذه العبارة في رجال سيدنا بحر العلوم الطباطبائي، فيكون ذلك بعد وفاة الشيخ الصدوق باربع سنين لأنّه توفي في الري سنة 381.
و عليه تطابقت المعاجم و المدوّنات، فكان مولده منبثق أنوار الفضيلة، و مبدأ الافاضات العلمية، فكان للمولى سبحانه فيه شأن من الشأن، حتى تمت في الحكمة البالغة تقييظ شيخ الطائفة لبثّ العلم، و نشر الدعاية الإلهيّة، فنهض (قده) بعبء ما قيّظ له فهذّب و أرشد و علّم و أدّب، و اقتفت الأمة آثاره، و استصبحوا بأنواره، و أغرق نزعا في إعلاء كلمة الحق، و لم يدع من ذلك في القوس منزعا.
هبط بغداد من خراسان سنة 408 و هو ابن ثلاثة و عشرين عاما 1 تقدمه راية العلم و الهدى، و بين شفتيه كلمة الإصلاح، و يضيء معه نور الفضل و الكمال، و معه العدّة و العدّة لمستقبله الكشّاف، و أهبة التقدّم و الظهور في كل من المآثر، فكان حضوره و تلمذه على شيخ الأمة و استاذ علمائها، شيخنا محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد نحوا من خمس سنين، حتى قضى الأستاذ نحبه، ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان من سنة 413 2 فانضوى شيخنا المترجم له إلى شريف علماء الشيعة و محققها علم الهدى السيّد المرتضى (قدّس سرّه) و كان يدرّ عليه من ثدي إفضاله ما تقاعست عنه الفكر طيلة ثلاثة و عشرين عاما، كما أنّه يدرّ عليه من المعاش و المسانهة في كل شهر اثني عشر دينارا، حتى اختار اللّه للسيّد لقاءه لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل سنة 436 3 .
و لم يكد نور الإمامة ينطفئ في العلم و العمل، حتى استقلّ بالظهور على منصّتها شيخ الأمة المترجم له، و اقيمت منه الأعلام و الصوى، و انتشر عرفه الفياح بين فجاج ذلك المستوى، و ازدلفت إليه العلماء و الأفاضل تستضيء بنوره المتألق، و ترتشف من معينه المتدفق، للتلمذة و الحضور تحت منبره، و تقاطر إليه المستفيدون من كل حدب و صوب، و بلغت عدة تلامذته الى ثلاثمائة من مجتهدي الخاصّة، و من العامّة ما لا يحصى عددهم، و قد اعترف الكل بفضله السيّال، و قد رووا منه شخصية بارزة، و نبوغا موصوفا، و عبقرية ظاهرة في العلم و العمل، حتى أنّ خليفة الوقت «القائم بأمر اللّه» عبد اللّه بن «القادر باللّه» أحمد جعل له كرسي الكلام و الافادة الذي ما كانوا يسمحون به يوم ذاك إلّا لوحيد العصر المبرز في علومه و معارفه الجمة على قرنائه و معاصريه.
و من قوّة عارضته و تقدّم حجته ما أثبته القاضي في المجالس، و سيدنا الطباطبائي في الرجال: أنه وشي بالشيخ «ره» الى خليفة الوقت العباسيّ «أحمد» أنه هو و أصحابه يسبون الصحابة، و كتابه المصباح يشهد بالك، فقد ذكر أن من دعاء يوم عاشوراء:- اللّهمّ خصّ أنت أول ظالم باللعن مني و ابدأ به أولا ثمّ الثاني ثمّ الثالث ثمّ الرابع، اللّهمّ العن يزيد بن معاوية خامسا.
فدعا الخليفة بالشيخ و الكتاب فلما احضر الشيخ و وقف على القصة ألهمه اللّه أن قال: ليس المراد من هذه الفقرات ما ظنه السعاة بل المراد بالأول قابيل قاتل هابيل و هو أول من سنّ الظلم و القتل، و بالثاني قيدار عاقر ناقة صالح، و بالثالث قاتل يحيى ابن زكريا من أجل بغي من بغايا بني إسرائيل، و بالرابع عبد الرحمن بن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب. فلما سمع الخليفة من الشيخ تأويله و بيانه قبل منه ذلك و رفع منزلته. و انتقم من الساعي و أهانه.
فلم يفتأ شيخ الطائفة إمام عصره، و عزيز مصره، مرموقا إليه بالعظمة، مقصودا لحل المشكلات، حتى غادر بغداد من أجل القلاقل الواقعة فيها من جرّاء الفتن بين الشيعة و أهل السنّة التي أحرقت فيها داره و كتبه و ما كان له من كرسيّ الافادة و التدريس.
و لم تزل هذه الفتن تنجم و تخبو في الفينة بعد الفينة حتّى غادرها إلى النجف الأشرف سنة 448 بعد وفاة استاذه المرتضى باثني عشر سنة، و مكث في النجف مثلها من الاعوام.
فالقت عصاها و استقر بها النوى
كما قرّ عينا بالاياب المسافر
هنالك أسّس حول المرقد العلوي الطاهر حوزة العلم و العمل، فانبثقت عليه الأنوار العلوية، و ازدهرت رياضها، و أينعت ثمارها، و جرت انهارها، و زغردت أطيارها فكانت ربوع وادي الغري تشعّ بمظاهر الكمال، و تشرق عليها ذكا الفضائل، و تترنح بين فجاجها فطاحل الرجال.
من تلق منهم تلق كهلا أو فتى
علم الهدى بحر الندى المورودا
***
من تلق منهم تلقه
كنز ذكا و معرفة
طهاة علم و لهم
في كل قدر مغرفة
آثاره و مآثره
لم تزل منتوجات المترجم له تضوع بين أرجاء العالم أرجا، و تضيء في أجواء الدهر بلجا، فمن كتاب نفس يحمله صدر حكيم، و من أثارة علم يدرسها نيقد كريم، و كلها أوضاح و غرر على جبين الحقب و ناصية الأزمنة و إليك ما تسنح به الفرص من أسمائها:-
كتاب التبيان في تفسير القرآن
هو ذلك الكتاب الضخم الفخم المناهزة أو المربية اجزاؤه على العشرة و لعله أول كتاب حوى علوم القرآن جمعاء. (ط)
قال سيدنا بحر العلوم في فوائده الرجالية:- أما التفسير فله فيه كتاب التبيان الجامع لعلوم القرآن، و هو كتاب جليل كبير، عديم النظير في التفاسير، و شيخنا الطبرسيّ إمام التفسير، في كتبه إليه يزدلف، و من بحره يغترف، و في صدر كتابه الكبير 4 بذلك يعترف و قد قال فيه:- أنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق و يلوح عليه رواء الصدق، قد تضمّن من المعاني الأسرار البديعة و احتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة و لم يقنع بتدوينها دون تبيينها، و لا بتنسيقها دون تحقيقها، و هو القدوة أستضيء بأنواره، و أطأ مواقع آثاره.